تونس الان منذ بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، […]
تونس الان
منذ بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، تبدو خريطة القوة العالمية وكأنها صياغتها تُعاد من جديد، ليس فقط على وقع الحروب التقليدية، بل على إيقاع أكثر الملفات حساسية الا وهو الطاقة.
فالتحوّل من الوقود الأحفوري إلى الطاقات النظيفة خلق سباقًا محمومًا بين القوى الكبرى، وأفرز معادلات إستراتيجية جديدة تُشبه “المتاهة”، تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع الحسابات الأمنية والسياسية
تحولات الطاقة تعيد رسم موازين القوى
لم تعد قوة الدول تقاس فقط بعدد دباباتها أو صواريخها، بل بقدرتها على التحكم في سلاسل إمدادات الطاقة والمعادن النادرة..
فالصين تسيطر اليوم على أكثر من 70٪ من الصناعات المرتبطة بالبطاريات والمعادن الإستراتيجية، فيما تحاول أوروبا الغارقة في أزماتها استعادة جزء من استقلالها الطاقي بعد صدمة الغاز الروسي عام 2022.
من جهتها، تراهن أمريكاعلى إعادة توطين صناعاتها وبناء حزام طاقي يمتد من كندا إلى المكسيك، بهدف إبعاد الصين عن مفاصل اقتصادها.
فالعالم اليوم أمام سباق دولي جديد، “حرب باردة خضراء”، تتسع رقعتها يوما بعد يوم، ورغم أن المنطقة العربية تملك ما يقارب ثلث احتياطي النفط العالمي، فقد بدأت مرحلة انتقالية حساسة.. فدول الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر، تدفع نحو اقتصاد ما بعد النفط، وتستثمر جزءا من فوائضها في الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر، استعدادا لعالم قد تصبح فيه براميل النفط أقل تأثيرا مما كانت عليه خلال القرن الماضي.
لكن هذا التحول لا يعني نهاية الصراعات، بل انتقالها إلى ساحات أخرى.. ساحات حيث يكون فيها لمن يملك التكنولوجيا ومن يسيطرعلى الممرات البحرية ومن يفرض معاييره البيئية على الآخرين دور.
فأوروبا تعيش اليوم ما يمكن وصفه بـ”الارتباك الاستراتيجي”.
اذ بعد عقود من الرفاه الاجتماعي، وجدت نفسها فجأة تعيش على وقع الحرب الأوكراني الروسية، وارتفاع في أسعار الطاقة، وعلى وقع صعود متسارع لليمين الشعبوي.
الشيء الذي جعل الحكومات الأوروبية تجبر على رفع ميزانيات الدفاع، وخفض الإنفاق الاجتماعي، والبحث عن حلفاء جدد في إفريقيا وآسيا لمواجهة الضغط الروسي والصيني والأمريكي معًا
ومع ذلك، تبقى أوروبا رهينة نقاط ضعفها الثلاث:
أولا: تبعيتها الطاقية
ثانيا: بطء قرارها السياسي.
ثالثا: اعتمادها المستمر على المظلة الأمنية الأمريكية
إنها قارة “مشبعة بالقيم”، لكنها ضعيفة في لحظة تتطلب قوة صلبة.
من جهتها تتقدم إفريقيا نحو مرحلة جديدة من التحرر السياسي والاقتصادي، فالدول التي كانت تدار من عواصم غربية أصبحت اليوم تقيم شراكات مع بكين وموسكو وأنقرة ودلهي،بحثا عن توازنات تبعدها عن الهيمنة التقليدية. وقد أدت الانقلابات الأخيرة في الساحل الإفريقي إلى انسحاب فرنسا وإعادة تموقعها، تاركة فراغا ملأته روسيا عسكريا والصين اقتصاديا
إنها عودة صريحة لتنافس الإمبراطوريات، ولكن وفق قواعد جديدة
التكنولوجيا سلاح جيو-سياسي
ان من يملك خوارزميات الذكاء الاصطناعي يملك القدرة على تشكيل الرأي العام وإدارة اقتصاد المستقبل وتطوير القدرات العسكرية غير المسبوقة، والتحكم في البيانات العالمية، وهذه “القوة غير المرئية” قد تغيّر معادلات القوة بين الدول أسرع من فعل النفط أو السلاح النووي في القرن الماضي، فالعالم أمام نظام عالمي بلا قائد واحد، وبلا توازن واضح، وبلا ضمانات حقيقية.. فالقوى الكبرى تتنافس، والقوى الصاعدة تتقدّم بثقة، والقوى الضعيفة تبحث عن مخرج.. أنه زلزال سيعيد تعريف القوة والسيادة والحدود والتحالفات لعقود قادمة.
ووسط كل هذه التحولات، يبقى الثابت الوحيد هو أن العالم يتغير بسرعة تفوق قدرة المؤسسات التقليدية على مواكبته. صعود قوى جديدة، وتآكل بعض النفوذ القديم، وتحول الطاقة والتكنولوجيا إلى أسلحة استراتيجية، كلّها عناصر تجعل النظام العالمي يعيش لحظة إعادة تشكيل حقيقية.
وليس من المبالغة القول إنّ العالم يقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي، حيث تتراجع أحادية القوة، ويتقدم منطق التعدد، وتغدو القدرة على التكيف هي الشرط الأول للبقاء في عالم لا يعترف بالثبات، ولا يحتفي إلّا بمن يحسن قراءة المستقبل قبل أن يصل.
بثينة الصالحي














