وطنية: قال الناشط السياسي نوفل سعيّد في منشور له الجمعة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك ان لحظة 25 جويلية 2021 كانت فرصة تاريخية لتونس للخروج من الأزمة العضوية التي تردت فيها
قال الناشط السياسي نوفل سعيّد في منشور له الجمعة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك ان لحظة 25 جويلية 2021 كانت فرصة تاريخية لتونس للخروج من الأزمة العضوية التي تردت فيها
وأضاف أنه لولا هذه اللحظة، بشهادة الكثيرين، لانحدرت البلاد في مستنقع العنف والعنف المضاد.
وتابع قائلا ‘ نعم لقد كان لقيس سعيّد الفضل و الشجاعة في تدشين هذه اللحظة و سيحفظ له التاريخ ذلك…ولكن منذ تدشينها أصبحت هذه اللحظة ملكا لتونس و مطروح علينا دعمها و تطويرها باعتبارها لحظة وطنية صنعت مشروعا سياسيا بديلا استوعب صلب الدولة الطاقات الاحتجاجية المتأججة التي عجزت النخبة السياسية التي حكمت البلاد على مدى عشرية كاملة عن استيعابها فكانت بهذا المعنى عنوان استقرار سياسي على جانب كبير من الأهمية .’
وشدد على أن الدولة قد تمر ببعض الازمات في ظل هذه الأوضاع الجديدة و لكنّها في كلّ الأحوال تبقى أزمات ظرفية.
أثبتت الدولة أنّها قادرة على استيعابها و حلّها ضمن أطرها و هي لا ترقى في كلّ الأحوال الى الازمة العضوية ذات الأفق المسدود التي انتهت اليها البلاد عشية 25 جويلية 2021 ، و لم يكن نجاح الدولة في استيعاب الازمات الظرفية الا نتيجة ارتفاع منسوب الثقة بين الجمهور الواسع و قيادته و هذا أمر مستحدث لم تعهده البلاد منذ عقود طويلة .
وشدد على أن لحظة 25 جويلية تقع في قلب الخيارات الوطنية المناهضة لإملاءات المنظومة الرأسمالية المالية العالمية …وهذا يمثل في حد ذاته رهانا صعبا وثقيلا جدا يوازي السباحة ضد التيار… رهان قبلته الدولة الوطنية على جسامته.
واعتبر الناشط السياسي أن هناك شقا من المعارضين ل 25 جويلية يعول على تحويل هذه اللحظة داخليا الى عنوان أزمة عضوية بتهويل بعض الأزمات الظرفية العابرة او الاحداث التي قد تطرأ من حين الى آخر ولكن لم يفلح في ذلك نظرا الى أنّ الازمة لا تتحول من ظرفية الى عضوية الاّ عندما تقرر كتلة اجتماعية ذات بال أن النظام القائم يجب أن يتغير باعتباره هو نفسه مصدر الأزمة نتيجة عجزه عن صنع الحلول التي ينتظرها الجمهور عندئذ فقط تتشكل قوى اجتماعية صلبة لتطالب بحل جماعي من أجل تغيير النظام.
وفي ما يلي التدوينة كاملة :
25 جويلية خياروطني ضد التيار
من النادر أن نلاحظ تغيرات جيوستراتيجية تطرأ على المستوى الدولي أمام اعيننا بمثل الكثافة و العمق الدي يحصل اليوم… حتى نفهم دوافع هذه التغيرات أعتقد أنّنا لن نكون مجانبين للصواب اذا ما أرجعناه الى المحرك الرئيسي و الاساسي للافثصاد العالمي و هومحرك التراكم الرأس مالي على الصعيد العالمي
L’accumulation à l’échelle mondiale
و المقصود بالتراكم هنا هو نزوع أصحاب رؤوس الأموال الى تنمية رؤوس أموالهم و تحقيق الربح بلا حدود و الى ما لا نهاية..
La tendance du capital à l’auto-accroissement sans fin
في هذا الاطار بالذات قدمت الباحثة في العلوم السياسية و الجامعية الأمريكية نانسي فرايزر ” Nancy Fraser” في كتابها ذو العنوان الصادم” الرأسمالية هي أكل لحوم البشر” Le capitalisme est un cannibalisme الصادرأخيرا مترجما عن دار النشر الفرنسية AGONE بتاريخ سنة 2025 مقاربة جريئة و ثاقبة في وصفها وفهمها للمرحلة الراهنة التي يمرّ بها النظام الراس مالي العالمي.
Le capitalisme mondial financiarisé
بعد ابراز، في جزء اول(1) ، الخطوط العريضة للتحليل الذي قدمته فرايزر حول النظام الاقتصادي العالمي في مرحلته المالية الراهنة وفي تاثيره في تشكل و إعادة تشكل العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في ظلّ الرأسمالية المالية المعولمة ، سوف أحاول ان أبرز في جزء ثان (2) كيف كانت تونس في المرحلة الممتدة بين 14 جانفي 2011 و 25 جويلية 2021 رجع صدى و مختبر محلي لهذا النظام الذي اتتهى بالبلاد الى ازمة عضوية خانقة ثمّ سأحاول في جزء ثالث (3) أن أوضح كيف مثل 25 جويلية لحظة وطنية فارقة للفكاك من هذه الازمة.
1- تشكل و إعادة تشكل العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في ظلّ الرأسمالية المالية المعولمة :
توكد فرايزر على أنّ السمة الأبرز للتشابك بين الاقتصاد والسياسة في ظلّ النظام الرأسمالي المالي المعولم السائد اليوم هي تغييب كيان الدولة بشكل شبه تام في القيام بدورها الاقتصادي التحكيمي و في كلّ ما له صلة بضبط العلاقة بين رأس المال و العمل و بين المواطنين و دولهم و بين الدول الواقعة في مركز هذا النظام و الأخرى الواقعة على أطرافه .. كل ذلك، تؤكد فرايزر، في سبيل تأمين السيولة القصوى لتداول رؤوس الأموال عبر العالم و لتحقيق أكبر قدر ممكن من التراكم المالي .
في المقابل تعتبر فرايزر أن هذا الدور التحكيمي قد انتقل من الدول الى مراكز و كيانات خارجة عن الدول مثل البنوك المركزية و المؤسسات المالية الدولية التي أصبحت تتحكم كذلك و بشكل بارز في ضبط العلاقة بين الدول الدائنة و الدول المدينة لأنّ الدين – بحسب رأيها – يعتبر أفضل وسيلة لاخضاع الدول و الشعوب و ضمان انتقال سلس و متواصل لفائض القيمة من الأطراف إلى المركز و استنزاف ثروات المجتمعات. انّها مرحلة تاريخية جديدة بلغها النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته المالية النيوليبرالية وهي مرحلة، ما اسمته، التراكم عن طريق الدين
Un système fondé sur l’accumulation par la dette
لقد أدّت هذه الوضعية الجديدة، بحسب فرايزر، الى أربع نتائج هامة:
1- تناقص دور الدول و تضاءل قدرتها بشكل لافت و أكثر من أي وقت مضى على حل مشاكل مواطنيها أو تلبية احتياجاتهم. اذ لا مكان في ظل هذا النظام للدولة الإنمائية :
L’Etat Développementaliste
الدولة التي تصنع سياساتها التنموية باستقلالية.
2- تمتع البنوك المركزية المحلية والمؤسسات المالية العالمية باستقلالية سياسية و مالية كبيرة إزاء الدول بحيث تعيق قدرات هذه الأخيرة و تشلّها : باعتبار أن ّ هذه البنوك و المؤسسات المالية هي كيانات غير منتخبة فهي لا فقط غير مسؤولة أمام المواطنين بل أيضا مطلقة اليدين في التصرف إزاء الدائنين و المؤسسات المالية الدولية.
3-من النتائج الحتمية لهيمنة المؤسسات المالية و الاقتصادية العالمية ادخال الدول في مرحلة اسمتها فرايزر بمرحلة “الحوكمة بدون حكومة”
La gouvernance sans gouvernement
بحبث انّ العديد من الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الدول تخرج، في الحقيقة عن سيطرتها، بل يقع إقرارها من الخارج و ما على الدول – او ما تبقى منها- الا إدارة تبعات هذه التأثيرات محليا. من هنا تلاحظ فرايزر أن التوسع الرأس مالي الجديد و في سياق تذليله و محوه لكل العقبات التي من شانها أن تحول دون انتشاره و توسعه قد أضعف الى حد كبير سيادة الدول بل وصل الأمر، في بعض الحالات، الى تفتيت الدول و تجزئتها.
4- في ظل هذه الأوضاع المتّسمة بسيطرة المؤسسات المالية الدولية المانحة على مجريات الأمور داخل الدول و هيمنتها عليها يصبح الحديث عن الديمقراطية غير ذي موضوع ( القرارات السيادية الرئيسية التي تهم مصائر الشعوب تتخذ من خارج الدول ) لذلك تعتبر فرايزر أنّ العالم قد دخل حاليا في مرحلة ما بعد – الديمقراطية أو مرحلة الغاء الديمقراطية .
Dé- démocratisation ou postdémocratie
ترى فرايزر،أيضا، انّ مقتضيات التراكم المالي على الصعيد العالمي التي يعيشها النظام الرأسمالي اليوم في مرحلته النيوليبرالية تأبى، في عمقها، الديمقراطية صلب الدول و لا تقبل ان تتعايش معها لأنّها تعتبر نفسها غير معنية أصلا بمشاغل مواطني الدول و لا حتى بمشاغل الدول ذاتها و ان كانت ظاهريا تبدي العكس.
في نفس السياق لعلنا لا نجانب الصواب اذا قلنا، أيضا، أن القانون الدولي و من وراءه النظام المتعدد الأطراف:
L’ordre international multilatéral
الذي انطلق بناءه عن طريق الدول على امتداد سنوات طوال اثر الحرب العالمية الثانية مثلما كرّسه ميثاق الأمم المتحدة يعيش اليوم اسوا و احلك فتراته في ظل هذه المرحلة النيوليبرالية الجديدة …فبدل الحديث الذي تعودنا عليه عن القانون الدولي – الذي صنعته الدول – و ضرورة احترام مبادءه و قواعده المعروفة من القاصي و الداني على امتداد عقود من الزمن اصبحنا اليوم نسمع أكثر فاكثر عن نظام جديد ذو محتوى مبهم هو النظام “القائم على قواعد” :
A Rules-Based-Order (RBO)-Un Ordre Fondé sur des Règles
هذا ما نقراه مثلا في البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي المصادق عليها في سنة 2022 .
La Boussole Stratégique de l’Union Européenne (Mars2022)
من يصنع هذه القواعد، ما هو محتواها، ما هو الهدف منها، ما هي دلالاتها ???
جميع هذه الأسئلة لا تفهم الا اذا ما وضعناها وفهمناها في سياق الارادة الواضحة الصادرة عن الدول الغربية:
Le Nord Global
لتجاوز النظام الموروث ( الذي صنعته الدول) عن اتفاقات بروتن وودز المعتمد بعد الحرب العالمية الثانية (1944)…ولعلنا لا نجانب الصواب أيضا اذا قلنا ان الغاية من هذا النظام الجديد هي تجاوز النظام القديم الذي لم يعد في وسعه- بحسب راي استرتيجي هذه الدول- مواكبة النظام المالي العالمي النيوليبرالي الجديد بالسمات التي تعرضنا اليه سابقا. لذلك برزت الحاجة الى وضع قواعد جديدة تكون اكثر غموضا و مرونة للالتفاف على القانون الدولي الثابتة اركانه منذ عقود في تجاوز واضح للنظام المتعدد الأطراف.
توضح فرايزر أنّ الانتقال الى نظام التراكم الراس مال المالي القائم على الدين المتحرر تقريبا من جميع الضوابط و القيود قد حدث في سياق عملية إعادة هيكلة تدريجية كبرى و تجاوز مستمر للنظام الاقتصادي العالمي الموروث عن اتفاقات بروتن وودز . اذ الخاصية الأبرز لهذا النظام الذي رأى النور بعد الحرب العالمية الثانية (1944) كانت تتمثل في إدارة الدول لراس المال كفرض الرقابة على حركة رؤوس الأموال و التحكم في أسعار الصرف …حتى تسمح له بالتعافي من الازمة التي انزلق فيها بعد اشتعال نار هذه الحرب…امّا اليوم فلم تعد هناك حاجة- الى حين- لاتكاء راس المال المالي على الدولة حتى تعاضده..لذلك فقد آن الأوان ليتحرر بصفة جلية من ضوابطها و من ضوابط النظام الدولي المتعدد الاطراف.
2- تونس في المرحلة الممتدة بين 14 جانفي 2011 و 25 جويلية 2021 رجع صدى و مختبرمحلي للنظام الاقتصادي العالمي الجديد :
سوف لن نذهب بعيدا في التاريخ لرصد مدى تشابك العلاقة بين البنى السياسية و البنى الاقتصادية و مدى تأثير الثانية في الأولى وكيف انّه في كلّ مرّة يحدث فيها انتقال سياسي في تونس (باستثناء لحظة 25 جويلية 2021 مثلما سنرى) الاّ و كان هذا الانتقال على اتصال وثيق بانتقال النظام الرأسمالي العالمي من مرحلة تراكم الى أخرى . كما سوف لن نذهب – لضيق المجال- الى بيان كيف أنّه في كل مرّة يرتبط فيها التغيير في تونس بإملاءات الدوائر الراسمالية العالمية الا و انتهت الأمور الى أزمة اجتماعية حادة. بل سنكتفي بالتعرض الى مرحلتين معاصرتين تهمان هذا التشابك في علاقته بتونس: المرحلة الأولى هي المرحلة الممتدة بين 14 جانفي 2011 و 25 جويلية 2021 أمذا المرحلة الثانية فهي المرحلة التي دشّنه 25 جويلية 2021.
-المرحلة الممتدة بين 14 جانفي2011 و 25 جويلية 2021:
يعلم الجميع بأن المرحلة التي دشنها الحراك الشعبي في تونس في 17 ديسمبر 2010 كانت مرحلة شعبية عفوية لم تخطط لها ايّة جهة لذلك كان من الضروري – بالنسبة لبعض المؤثرين- أن لا تنفلت هذه اللحظة فتشق طريقها في اتجاه لا يتلاءم مع خطة “الربيع العربي” التي كان يراد للوطن العربي أن يدخل فيها ( وتونس كانت تعد سابقة في هذا الخصوص) و فقا لما تريده لها الدوائر المالية العالمية :
فكان لا بد من احتضان الزخم الثوري و توجيهه في الاتجاه المرغوب.فبدات توضع الخطط من أجل ما اصطلح على تسميته حينئذ ببرنامج “تحقيق أهداف الثورة” فمع تتالي المحطات الانتخابية و السياسية 23 أكتوبر 2011 ( انتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي و26 جانفي 2014 (إقرار الدستورمن فبل المجلس الوطني التأسيسي ) و 26 أكتوبر 2014 (انتخاب مجلس نواب الشعب) و 23 نوفمبر 2014 – 21 ديسمبر 2014 ( انتخابات رئاسية) … اتضح بصفة جلية أنها مرحلية تصب في التوصيف الذي قدمته نانسي فرايزر: اضعاف لسيادة الدولة – الدخول بالدولة في مرحلة الحوكمة بدون حكومة – استقلالية الدوائر المالية المحلية عن الدولة…. اضعاف التوجه التنموي و الإنمائي للدولة… عدم الإنصات الى مشاغل المواطنين…
كما تعزز تجسيد هظه المرحاية من خلال:
* نظام اقتراع على القائمات يكرس هيمنة الأحزاب على المجلس التشريعي
* حكومة مشلولة القوى تتلاعب بها اهواء الأحزاب داخل البرلمان
* رئاسات ثلاث انتهت بتمييع للسلطة من خلال رئاسات ثلاث اصعفت الى ابعد مدى سلطة القرار داخل الدولة و
* سياحة حزبية بين الكتل البرلمانية ….
*التدبير الحر بالنسبة للجماعات المحلية و المآلات التي آل اليها ….
* استقلالية البنك المركزي من خلال القانون عدد 35 لسنة 2016:
في خصوص هذه النقطة بالذات أرى من المفيد الاطلاع على ما قاله عزيز كريشان …وهو الذي كان المستشار السابق “برئاسة الجمهورية المؤقتة” بين 2012 و 2014 في كتابه ” اليسار و سرديته الكبرى” – الصادر عن دار “كلمات عابرة” تونس 2022 . ص. ص 115- 116 . سأسوق المقطع التالي على طوله لأهميته و لما له من مغزى ضرورة أنّه قد صدر عن شخص تقلد مهمة رسمية صلب الدولة التونسية عندئذ و لتبين مدى علاقته بالتوصيف الذي قدمته نانسي فرايزر.
“….إن .. القرار المتخذ سنة 2016المتعلق بإعادة تنظيم البنك المركزي لا يمكن أن يُفهم دون تنزيل قضية الدين ضمن السياق الآنف الذكر خلافا لما ذهبت إليه الحكومة في اعتباره مجرد تعديل تقني.
لقد كان مشروع هذا القانون مُملى على موظفي وزارة المالية من طرف صندوق النقد الدولي و جاء نتيجة مساومة، كما هي العادة ، حيث وُضعوا أمام خيار المصادقة على القانون قبل يوم 3 ماي 2016 أو تجميد القرض المقبل بقيمة2.5 مليار دينار. وهو ما أدى إلى المصادقة عليه على عجل، دون نقاش حقيقي أو عمومي أو حتى برلماني.
فطبقا للتشريع الجديد أصبح البنك المركزي مستقلا تماما عن الدولة و لم تعد هذه الأخيرة قادرة على التوجه إلى البنك المركزي لطلب أي قرض أو سحب على المكشوف بغاية تمويل ميزانيتها و لم يبق لها سوى التوجه إلى البنوك الخاصة التونسية أو الأجنبية.
و كان من نتائج المصادقة على القانون إدخال البلاد في مستوى أعلى من التبعية و الخضوع، و لم يعد من الدولة سوى الاسم بحكم فقدانها لكل قدرة مالية مستقلة. بل الأدهى من ذلك هو التحول الحقيقي الذي حدث من خلال التمفصل الجديد بين مصالح الاوليغارشيا الريعية و مصالح المؤسسات المالية الغربية.
كنا أشرنا إلى الطريقة التي اكتسحت بها الاوليغارشيا البنوك المحلية و كيف أصبحت تتملك اليوم رأس مالها و مجلس إدارتها في الآن ذاته. في حين أن التمحور الجديد ينتظم بطريقة جعلت الدين الخارجي لا يمر عن طريق الدولة بل يُجانبها حيث يُحول إلى البنك المركزي الذي يقرض البنوك الخاصة بنسب فائدة مُتدنية ثمّ تقوم هذه البنوك الخاصة – التي يملكها أصحاب الريع- بإقراض الدولة بنسب فائدة مرتفعة، طبعا.
و إذا كانت الدولة هي الخاسر الأكبر من قانون 2016 ، فانّ الرابح الأكبر هي الاوليغارشيا الريعية. فمصالحها ليست مرتبطة فقط بالتبعية بل أصبحت مرتبطة مباشرة بالتداين . و بقدر ارتفاع نسبة التداين يزداد ثراؤها. هكذا أصبح الدين الخارجي المسلك الجديد الواعد الذي يمكّن من الحصول على أقصى مل يمكن من الأرباح بأقل جهد ممكن.
وكما يمكن توقعه سلفا، فانّ هذه الاوليغارشيا لن تتوقف عند نصف الطريق بل سوف تدفع تداين البلاد إلى مستويات أعلى فأعلى….. “
*انشغال الكتل البرلمانية بعقد الصفقات السياسية بعيدا عن الانصات لمشاغل المواطنين…. اضعاف التوجه التنموي و الإنمائي للدولة…اهمال للجهات…..و غير ذلك كثير… ازمة عضوية عميقة شقت أوصل كلّ ذلك الى أزمة عضوية عميقة صلب المجتمع التونسي برمته … و كأنّ هذا كلّه هو برنامج تحقيق أهداف الثورة و الانتقال الديمقراطي التي نادت بها الجماهير الثائرة في 17 ديسمبر 2010 .
المآل المحتوم أزمة عضوية خانقة :
مثلما لاحظ الجميع أدّت الأوضاع الموروثة عن منظومة 14 جانفي 2011 شيئا فشيئا الى ما اسماه المفكر الإيطالي ، أنطونيو قرامشي، بالأزمة العضوية
Crise organique
وهي الأزمة التي تضر بالمحددات البنيوية العميقة للمجتمع
Les déterminations structurelles les plus profondes de la société
الموكول اليها تمكين المجتمع من إعادة انتاج نفسه في كنف السلم والأمان بعيدا عن العنف و الاحتراب …مقيمة الدليل، في نفس الوقت، على أن اقحام الدولة التونسية في ما سمي ” بالربيع العربي” قد تم صلب منظومة فاشلة بلاعبين فاشلين فكان ما اصطلح على تسميته ب “ثورة الياسمين” قصة فشل
A failure story
أكثر منها قصة نجاح
A success story
نتذكر جميعا، في هذا الصدد، المظاهرات الشعبية العارمة التي شقت البلاد طولا و عرضا يوم 25 جويلية 2021 مؤذنة بانسداد الآفاق نهائيا امام منظومة 14 جانفي 2011.
3- 25 جويلية لحظة وطنية فارقة للفكاك من الازمة
كانت لحظة 25 جويلية 2021 فرصة تاريخية لتونس للخروج من الأزمة العضوية التي تردت فيها و لولا هذه اللحظة، بشهادة الكثيرين، لانحدرت البلاد في مستنقع العنف والعنف المضاد…نعم لقد كان لقيس سعيّد الفضل و الشجاعة في تدشين هذه اللحظة و سيحفظ له التاريخ ذلك…ولكن منذ تدشينها أصبحت هذه اللحظة ملكا لتونس و مطروح علينا دعمها و تطويرها باعتبارها لحظة وطنية صنعت مشروعا سياسيا بديلا استوعب صلب الدولة الطاقات الاحتجاجية المتأججة التي عجزت النخبة السياسية التي حكمت البلاد على مدى عشرية كاملة عن استيعابها فكانت بهذا المعنى عنوان استقرار سياسي على جانب كبير من الأهمية .
نعم في ظلّ هذه الأوضاع الجديدة قد تمر الدولة ببعض الازمات و لكنّها في كلّ الأحوال تبقى أزمات ظرفية
Crises conjoncturelles
أثبتت الدولة أنّها قادرة على استيعابها و حلّها ضمن أطرها و هي لا ترقى في كلّ الأحوال الى الازمة العضوية ذات الأفق المسدود التي انتهت اليها البلاد عشية 25 جويلية 2021 ، و لم يكن نجاح الدولة في استيعاب الازمات الظرفية الا نتيجة ارتفاع منسوب الثقة بين الجمهور الواسع و قيادته و هذا أمر مستحدث لم تعهده البلاد منذ عقود طويلة .
بانفتاح و انصات الدولة للفئات المقهورة و المهمشة و بتصديها لتفتيت السلطة وتمييعها و باستعادة الدولة لدورها الاجتماعي و الانمائي و السيادي برفض استقلالية البنك المركزي و التداين على أوسع نطاق….تقع لحظة 25 جويلية في قلب الخيارات الوطنية المناهضة لأملآت المنظومة الرأسمالية المالية العالمية …وهذا يمثل في حد ذاته رهانا صعبا وثقيلا جدا يوازي السباحة ضد التيار… رهان قبلته الدولة الوطنية على جسامته.
نعم هناك شق من المعارضين ل 25 جويلية يعول على تحويل هذه اللحظة داخليا الى عنوان أزمة عضوية بتهويل بعض الأزمات الظرفية العابرة او الاحداث التي قد تطرأ من حين الى آخر ولكن لم يفلح في ذلك نظرا الى أنّ الازمة لا تتحول من ظرفية الى عضوية الاّ عندما تقرر كتلة اجتماعية ذات بال أن النظام القائم يجب أن يتغير باعتباره هو نفسه مصدر الأزمة نتيجة عجزه عن صنع الحلول التي ينتظرها الجمهور عندئذ فقط تتشكل قوى اجتماعية صلبة لتطالب بحل جماعي من أجل تغيير النظام القائم. عندها فقط يمكننا الحديث عن أزمة (عضوية) بالمعنى الواسع المؤدي الى احداث منعطف تاريخي جوهري يستوجب اتخاذ قرار هام من قبل الجمهور حول استمرار النظام القائم من عدمه. و هذا كلّه لم يحدث في تونس منذ 25 جويلية 2021 لأنّ الأمل معقود من قبل الجماهير الواسعة و بعمق على قدرة الدولة بقيادتها على حل هذه الإشكالات الظرفية الطارئة.
من الطبيعي ان أي حكم مهما كان يستدعي وجود معارضة …و لكن على المعارضة أن تزود نفسها بنظرية نقدية قادرة على فهم موقعها و موقع تونس في ظل التغيرات العالمية الراهنة ، ناهيك عن توجيهها نحو حلول تحررها من عيوب العشرية السوداء .
كما على الرأس مال الوطني أن يدرك أنّه يمكنه أن يزدهر و ينتعش في هذا البلد بطرق شفافة و يساهم في صناعة الثروة في ظل دولة وطنية عادلة انمائية ترعى حقوق العمال و ضعاف الحال ولا يكون ذلك على حسابهم.
المطلوب اليوم كذلك هو بدون أدنى شك مزيد فتح الآفاق امام الطاقات التونسية الشابة و بعث الأمل فيهم و تذليل الصعوبات امام ذكاءهم الوقاد لتأمين بقاءهم في بلدهم … فلم يعد من المقبول اليوم أن تكوّن تونس من عرق دافعي الضرائب ألمع المهندسين و الأطباء و الكوادر …ثمّ تشاهدهم يغادرون بلدهم الواحد تلو الآخر …هذا ما تسعى اليه دولة 25 جويلية بجهد و ثبات رغم الصعوبات الجمة التي تواجهها خصوصا من أولئك الذين لا يزال يحدوهم الامل صلب الدولة العميقة لا عادة انتاج دولة الفساد التي ثار عليه الشعب.
في النهاية اقول أنّه على المنظومة النيوليرالية العالمية أن تقبل التعايش مع الأنظمة الوطنية التي تخدم شعوبها…لأن غير ذلك لن تكون نتيجته الاّ الفوضى …غير الخلاقة…















