رأي: فالمؤسسات الاجتماعية والثقافية لا تمارس سيطرتها دائمًا بالقمع المباشر، بل عبر عنف رمزي يجعل المقهور يتبنّى قواعد الهيمنة باعتبارها طبيعية وضرورية.
تونس الآن
تنبيه للقارئ: هذا المقال موجَّه لمن يملك الجرأة على مواجهة ما يبدو طبيعيًا وجماليًا في آنٍ واحد، وليس للباحثين عن الطمأنينة السهلة.
في الهوامش المنسية من الحقل الاجتماعي والثقافي، تتكشف ذوات لا تموت بسهولة. ذوات تُربّى وذوات تُؤكَل، فيما يظهر الحقل نفسه بمظهر النظام العقلاني والمنظم. هذا التمييز ليس اعتباطيًا، بل يعكس هيكلة الحقل الاجتماعي وفق قواعد السلطة الرمزية، وهو ما أكّده عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في أعماله حول الهيمنة الاجتماعية (Bourdieu, 1977).
فالمؤسسات الاجتماعية والثقافية لا تمارس سيطرتها دائمًا بالقمع المباشر، بل عبر عنف رمزي يجعل المقهور يتبنّى قواعد الهيمنة باعتبارها طبيعية وضرورية، محوّلًا الطاعة إلى فضيلة والاستنزاف إلى قيمة.
التدجين الرمزي كآلية للسيطرة تُربّى بعض الذوات لترويض غرابتها وكسر حدتها وضبط اختلافها، لتصبح مقبولة شكليًا، قابلة للإدارة، ومطمئنة للسلطة. هذه العملية ليست مجرد ضبط اجتماعي، بل إعادة إنتاج دقيقة لهياكل الحقل الثقافي والاجتماعي، حيث تصبح الذات قابلة للقراءة والتقدير داخل المنظومة، بينما يُهمش من يرفض التكيف.
وحين تفشل التربية الرمزية إما لصلابة الذات أو لقصور المنظومة في الاستيعاب يدخل الفرد مرحلة الأكل الرمزي. هذه المرحلة لا تعتمد على القمع الصريح، بل على أساليب دقيقة للإقصاء تبدو عقلانية أو جمالية، لكنها في العمق تفرغ الذات من معناها وطاقتها الرمزية والثقافية (Bourdieu, 1984).
هذه الآلية تمكّن المنظومة من إعادة ترتيب الحقل وفق أولوياتها دون مواجهة صريحة، وتحوّل الاستنزاف الرمزي إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة. جمالية الإقصاء في الحقول الثقافية، تقدم الثقافة غالبًا في صحون نظيفة، متناسقة، مراعية للذوق العام، بينما يزال أي فائض نابض بالحياة أي ما يعترض أو يربك إلى الهامش، بحركة مهذبة، كمن يزيح فتاتا مزعجا عن الطاولة.
قد يبدو الأمر مجازيا، لكن النهش الرمزي حقيقي، مهما بدت الأدوات مختلفة. وهنا يظهر الدور الحاسم لـ رأس المال الرمزي والثقافي، الذي يمكّن الفرد من البقاء ضمن الحقل. من يرفض الترويض يُسحب تدريجيا إلى الهامش، ويوصم بالنرجسية أو بالتصرف المزعج، فيما يحتفى بمن يمتثل ويدار وفق قواعد الحقل. الطاعة والاختلاف وفق بورديو، الطاعة ليست امتثالا أعمى، بل استراتيجية للبقاء داخل الحقل الثقافي والاجتماعي.
أما من يصر على الحفاظ على ذاته كاملة، بلا ترويض أو استنزاف، فيتعرض للإقصاء الرمزي المستمر، دون مواجهة مباشرة، ويُصوَّر مقاومته على أنها خلل في المنظومة.
ومع ذلك، يبقى ثمة فتات عنيد من الذات لا يستأنس ولا يهذَّب.ينجو احيانا يتسرب من الشقوق ليذكر بحدود السيطرة الرمزية، بأن ما يفرغ بلا خسارة لم يكن ممتلئا بما يكفي، وما يؤكل بسهولة لم يكن ناضجا من الأساس.
هذا الفتات لا يسعى للاعتراف، بل للحفاظ على مساحة للتمرد الرمزي داخل الحقل. يظل الحقل الثقافي والاجتماعي مسرحا لصراع مستمر بين الهيمنة والاختلاف، بين الطاعة والاستقلالية، وبين من يمتلك رأس المال الرمزي ومن يستنزف من أجله.
القراءة البورديوية لهذه العملية تكشف الطبقات الخفية للسيطرة الرمزية، وتوضح كيف تتحول التربية، الاستنزاف، والإقصاء إلى أدوات دقيقة لإعادة إنتاج السلطة، دون الحاجة إلى قمع مباشر أو صراع معلن.
بثينة الصالحي














